أمريكا، فلسطين، والغزو- قصة استعمار دموي لا تنتهي

صدر حديثًا كتاب "أمريكا: تاريخ جديد للعالم الجديد" للمؤرخ والصحفي الأمريكي المرموق غريغ غراندين، الحائز على جائزة بوليتزر المرموقة. يغطي هذا العمل الضخم الفترة الزمنية الممتدة من الغزو الإسباني للأمريكتين حتى يومنا هذا، ويقدم منظورًا جديدًا ومثيرًا للتفكير حول تاريخ القارة.
سرعان ما صعد الكتاب إلى المرتبة الرابعة عشرة في قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا، مما يعكس الاهتمام الواسع الذي أثاره. وذهبت مراجعة نقدية في صحيفة "فايننشال تايمز" إلى حد التنبؤ بإمكانية فوز غراندين بجائزة بوليتزر للمرة الثانية عن هذا الكتاب القيم.
يستكشف الكتاب العلاقات التاريخية المعقدة، أو بالأحرى غياب العلاقات الحقيقية، بين الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية. يأتي ذلك في وقت يسعى فيه دونالد ترامب إلى ترسيخ نفسه سيدًا على القارتين، مستحضرًا أفكارًا مثل استعادة قناة بنما، وتحويل غرينلاند إلى مستوطنة أمريكية، وضم كندا لتصبح "الولاية 51"، وحتى تغيير اسم خليج المكسيك إلى "خليج أمريكا"، وربما تحويل المكسيك نفسها إلى "الولاية 52" بدون سكانها الأصليين.
في ظل مرور ستة أشهر على ولاية ترامب الثانية، يبدو أن هذا الكتاب قد جاء في التوقيت المثالي. يسلط الكتاب الضوء على علاقات الأمريكتين على مدار القرون الخمسة الماضية، ويربطها بشكل وثيق بالأحداث المأساوية في غزة.
في مقال حديث له، يتأمل غراندين في أهوال خمسة قرون من الغزو والإبادة التي ارتكبها الغرب، ويشارك قصة الفنان التشكيلي ليون غولوب من شيكاغو. اشتهر غولوب بلوحاته الضخمة التي تجسد غرف التعذيب القرمزية في أمريكا الوسطى. عندما سُئل عن معنى أن يكون "فنانًا سياسيًا يهوديًا"، أجاب على الفور بأنه ليس كذلك، بل هو مجرد "فنان سياسي". ومع ذلك، سرعان ما أدرك غولوب أن إجابته كانت سطحية للغاية.
في الواقع، كان غولوب فنانًا سياسيًا بامتياز. لم تركز لوحاته فقط على أمريكا اللاتينية، بل أيضًا على فيتنام التي مزقتها الحرب، والعنصرية المتفشية في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا.
لكنه مع ذلك، تجنب عن عمد معالجة الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة في أعماله الفنية. اعترف غولوب بأن النجاح كفنان يتطلب تجنب تصوير "الأهوال التي يتعرض لها الفلسطينيون". فقط عندئذٍ سيحصل على الحرية للتعبير عن آرائه السياسية حول أي موضوع آخر.
يعلق غراندين قائلًا إنه على مدار العام والنصف الماضيين، تذكر ليون غولوب (1922-2004) في مناسبات عديدة. لقد تزامن تصعيد الهجوم الإسرائيلي على غزة والعنف المتزايد للمستوطنين في الضفة الغربية مع اندفاعه لإكمال كتابه الجديد. يتتبع الكتاب دورًا غالبًا ما يتم تجاهله لأمريكا اللاتينية في معارضة مبدأ "حق الغزو" وفي تأسيس النظام الدولي الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك إنشاء محكمة العدل الدولية، التي تنظر حاليًا في الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا والتي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
منذ ثلاثة عقود، يكتب غراندين بانتقاد لاذع لسلوك الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية. وعلى عكس العديد من الباحثين في شؤون الشرق الأوسط، فقد تمكن من القيام بذلك دون أن يتعرض للعقاب. والسبب في ذلك، كما يقول غراندين، هو أنه ركز على "الأهوال التي لحقت" بغير الفلسطينيين. وكما قال الرئيس ريتشارد نيكسون بدقة في عام 1971، "لا أحد في الولايات المتحدة يكترث لأمريكا اللاتينية".
إن اللامبالاة العامة تجاه هذه المنطقة، واستعداد أشد المدافعين عن النفوذ الأمريكي على مستوى العالم للاعتراف بعدم جدوى سياسات أمريكا في نصف الكرة الغربي (حيث نفذت الولايات المتحدة حوالي 41 انقلابًا أو تغييرًا للنظام بين عامي 1898 و1994)، جعل الحديث بصراحة عن أمريكا اللاتينية أمرًا آمنًا للغاية. ولكن، في عام 2025، يبدو أن "الأهوال" قد طالت كل مكان، ولم يعد من الممكن عزل التعاطف عن الأحداث الجارية.
الغزو: بين الماضي والحاضر
دعونا نلقي نظرة فاحصة على الغزو الإسباني للأمريكتين جنبًا إلى جنب مع العدوان الإسرائيلي على غزة. من نواحٍ عديدة، لا يمكن مقارنة هذين الحدثين، اللذين يفصل بينهما 500 عام. كان الغزو الإسباني واسع النطاق، وصراعًا للسيطرة على "عالم جديد" كان يقطنه آنذاك، وفقًا للتقديرات، حوالي 100 مليون نسمة.
أما العدوان على غزة، فقد جرى على أرض صغيرة نسبيًا، تبلغ مساحتها حوالي مساحة لاس فيغاس، ويسكنها أكثر من مليوني نسمة. أودى الغزو الإسباني بحياة عشرات الملايين، بينما تشير التقديرات إلى أن إسرائيل قتلت حتى الآن أكثر من 55 ألف فلسطيني، بالإضافة إلى عدد كبير من المفقودين، وأصابت ضعف هذا العدد بجروح.
ومع ذلك، توجد أوجه تشابه مدهشة بين الصراعين، بما في ذلك حقيقة أنهما بدآ في أعقاب ثورة في مجال الاتصالات: المطبعة في ذلك الوقت، ووسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الحاضر.
كانت إسبانيا أول إمبراطورية في التاريخ الحديث تعلن بنشاط عن فظائعها الاستعمارية. طبعت المطابع في مدريد وإشبيلية وغيرها صفحات تلو الأخرى تصف دموية الغزو: روايات عن عمليات شنق جماعية، وغرق أطفال رضع أو شويهم على نار مكشوفة لإطعام الكلاب، ومدن أحرقت عن آخرها.
وصف أحد الحكام الإسبان مشهدًا مروعًا لما بعد نهاية العالم يعج بالموتى الأحياء، ضحايا التشوهات التي تعرض لها السكان الأصليون في أمريكا، قائلًا: "حشد من الهنود العرجان والمبتورين المشوهين بلا أطراف، أو بيد واحدة فقط، عميان، مقطوعي الأنوف والآذان".
اليوم، يتداول الإنترنت عددًا لا يحصى من الصور ومقاطع الفيديو التي لا تقل فظاعة عن تلك. صور مروعة لجرائم ارتكبها جنود إسرائيليون بحق الفلسطينيين، لأطفال مبتوري الأطراف وجثث "رضع متحللة".
بعض صور الأطفال الذين جوعهم الجيش الإسرائيلي، وفقًا لمحرر في صحيفة "نيويورك تايمز"، كانت "صادمة" لدرجة يصعب معها نشرها.
في إسبانيا في القرن السادس عشر، كان الجنود العاديون يكتبون، أو يدفعون لآخرين لكتابة قصصهم عن الفوضى والوحشية، على أمل تسجيل بطولاتهم المزعومة.
اليوم، نشهد نسخًا رقمية محدثة لنوع مماثل من الفخر بالاحتلال والقهر، حيث ينشر أفراد من الجيش الإسرائيلي، على منصات مثل تيك توك، مقاطع فيديو لرجال من غزة "مجردين من ملابسهم، ومقيدين، ومعصوبي الأعين"، ويتباهون بالجرافات والدبابات وهي تهدم المنازل.
يسخر الجنود من تدمير المدارس والمستشفيات، وأثناء تفتيشهم للمنازل المهجورة، يشاهدون وهم يلعبون بملابس سكان هذه المنازل النازحين.
أعلن المسؤولون الإسبان في ذلك الوقت والمتحدثون باسم إسرائيل في الوقت الحالي صراحة عن نيتهم "قهر" أعدائهم وإجبارهم على مغادرة منازلهم وتجميعهم في مناطق أكثر قابلية للسيطرة.
كان بعض الإسبان في ذلك الوقت وبعض الإسرائيليين في الوقت الحاضر يمارسون ويعتقدون أن أعدائهم دون البشر. اعتقد خوان غينيس دي سيبولفيدا أن الأميركيين الأصليين "حيوانات متوحشة"، يشبهون "القردة بالنسبة للبشر".
ووصف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق (المطلوب حاليًا للمحكمة الجنائية الدولية) يوآف غالانت الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية". اعترف العديد من الكهنة والمسؤولين الملكيين الإسبان بأن الأميركيين الأصليين بشر، لكنهم اعتبروهم كالأطفال، الذين يجب فصلهم بعنف عن كهنتهم الوثنيين، تمامًا كما تعتقد إسرائيل بوجوب فصل الفلسطينيين بعنف عن "حماس".
وصرح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش عن التكتيكات المتطرفة التي يتبعها جيش إسرائيل قائلًا: "نحن بصدد فصل حماس عن السكان، وتطهير القطاع".
تبرير المجازر!
أمر هيرنان كورتيز (1485-1547)، أول حاكم إسباني قشتالي للمكسيك، رجاله بهدم معابد الأزتك، التي وصفها بـ "المساجد". كانت هذه المعابد بمثابة مراكز استشفاء، وتدميرها يوازي تدمير مستشفيات غزة ومراكز الإيواء الأخرى في الوقت الحاضر. حتى الموتى لم يكونوا في مأمن، لا في الأمريكتين في ذلك الوقت، ولا في غزة اليوم. وكما فعل الغزاة الإسبان، دنس جيش إسرائيل العديد من مقابر الموتى.
أثار العنف الإسباني في الأمريكتين ردود فعل أخلاقية قوية. على سبيل المثال، شكك الفقيه الدومينيكاني فرانسيسكو فيتوريا في شرعية الغزو، بينما أصر الأب بارتولومي دي لاس كاساس على المساواة المطلقة بين جميع البشر.
أدان لاهوتيون في ذلك الوقت العبودية المفروضة على السكان الأصليين. كان لهذه التصريحات والإدانات تداعيات طويلة المدى. لكنها لم تحدث فرقًا في وقف المعاناة، تمامًا كما هو الحال في غزة الآن. استمر الجدل حول شرعية الغزو لعقود، تمامًا كما يستمر الجدل حول شرعية احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
"الغزو"، كحدث منفرد كبير، كان من الممكن الطعن فيه، لكن معارك الغزو الفردية، من المذابح الصباحية والغارات الليلية على قرى السكان الأصليين، استمرت دون هوادة.
اعتبر المستوطنون الإسبان أنه، بغض النظر عما يقوله الكهنة على المنابر أو ما يناقشه الفقهاء في قاعات المحاضرات، فإن لهم الحق في "الدفاع" عن النفس: أي إذا هاجمهم الهنود، فيمكنهم الانتقام! تمامًا كحق إسرائيل "المزعوم" في الدفاع عن نفسها.
إليكم مثالًا واحدًا فقط من بين العديد من الأمثلة: في يوليو/ تموز 1503، ذبح المستوطنون الإسبان أكثر من 700 من سكان قرية زاراغوا في هيسبانيولا (الجزيرة التي تضم اليوم جمهوريتي هاييتي والدومينيكان). اعتبرت الملكة الإسبانية إيزابيلا هذه المجازر "عادلة"؛ لأن بعض سكان القرية بدأوا مقاومة عنيفة للحكم الإسباني.
تستخدم إسرائيل نفس الحجج للإصرار على أن حربها على حماس عادلة بالمثل، لأن حماس هي من بدأتها! وكما كان الصراع على هيسبانيولا معزولًا عن السياق الأوسع للغزو، فإن الصراع الذي بدأ في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يقدم معزولًا عن سياق احتلال إسرائيل لفلسطين منذ 77 عامًا!
مبدأ "حق الغزو": إرث استعماري مستمر
يعود هذا المبدأ إلى عصر الإمبراطورية الرومانية، وظل ساري المفعول في سياق المشروع الإمبراطوري الغربي، ودون عوائق تذكر، حتى أواخر القرن الثامن عشر، عندما رسخه قادة الولايات المتحدة تحت ستار التوجه غربًا نحو الساحل الغربي للقارة لاحتلال أراضي شعوبها الأصلية.
لقّنت أجيال من أساتذة القانون الأمريكيين طلابهم شرعية "حق الغزو"، وأن حق الأمم الأوروبية قد انتقل إلى الولايات المتحدة. هذه الإمبراطورية الشاسعة تأسست على الاكتشاف والغزو، بحسب جيمس كينت، أستاذ القانون بجامعة كولومبيا في تسعينيات القرن الثامن عشر.
أكدت المحكمة العليا الأمريكية أيضًا أن الدولة الأمريكية تأسست على الغزو، وأن مبدأه لا يزال ساري المفعول. وحتى ثلاثينيات القرن الماضي، أصر مرجع قانوني واسع الانتشار على أن الدولة، ومعظم المشرعين، أقروا الاستعباد كوسيلة لاكتساب الأراضي، وأن للمنتصر الحق في احتلال وضم أراضي العدو.
ثم عاد ترامب إلى السلطة ليؤكد مجددًا مبدأ "حق الغزو" الصريح، وعبر عنه بتصريحات عفوية حول حق استخدام القوة لاحتلال غرينلاند، وضم كندا باعتبارها "الولاية 51"، وانتزاع قناة بنما، وتحويل غزة إلى "ريفييرا" بعد تطهيرها عرقيًا بـ "الإبادة الجماعية" الإسرائيلية، بينما تثير حقول الغاز الملاصقة لشاطئ غزة لعاب ترامب ونتنياهو.
مع وصول الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة إلى مراحلها الأخيرة، يتجاهلها الكثيرون، غير قادرين على تحمل هول الأخبار، بينما لا يقدم حكام الولايات المتحدة شيئًا سوى المزيد من أسلحة الإبادة لإسرائيل، التي تواصل القتل العشوائي، وتحجب الغذاء والدواء عن المحاصرين في غزة.
حتى أبريل/ نيسان، كان حوالي مليوني فلسطيني يفتقدون مصدرًا آمنًا للغذاء. يستمر تحلل جثث الرضع، بينما يكمل جيش إسرائيل، كما وصف أحد المسؤولين الإسرائيليين، "غزو قطاع غزة". وقال وزير المالية سموتريتش إن غزة ستدمر بالكامل. وأضاف بنبرة قاتمة: "سنغزو ونبقى".
كان نفور اللاهوتيين والفلاسفة في القرن السادس عشر من وحشية الغزو الإسباني المفرطة بمثابة بداية لـ "تشكل بطيء لفكرة الإنسانية"، كفكرة هشة، ترسخت عبر القرون، وطبقت دائمًا بشكل انتقائي، ترى أن جميع البشر متساوون، ويشكلون مجتمعًا واحدًا يتجاوز القبلية والقومية. واليوم، تقوض وحشية الاستيطان والإبادة المماثلة في فلسطين هذه الفكرة. ويبدو أن الإنسانية تتلاشى بوتيرة متسارعة!
من كورتيز إلى نتنياهو وبوتين وترامب، تلوح في الأفق نهاية حقبة الغزو، كما يخلص غراندين.